التوحد و الوراثة - الجزء الأول

Blog Image
  • Author

    هلا الطاهر

    اخصائية علم الوراثة و الطب الجزيئي
  • Date

    22 July 2019

شهد العالم ارتفاعا ًهائلاً بأعداد حالات التوحد في السنوات الأخيرة. واصبح التوحد ظاهرة َموجودة بكل المجتمعات والدول، وظهرت العديد من المراكز المختصة والمعنية بالتوحد بالإضافة الى الكتب والبرامج التوعوية وغيرها.  وتعددت مصادر المعلومات واختلطت بالآراء الشخصية والخرافات الغريبة. فما هي حقيقة التوحد؟

مرض التوحد او ما يسمى باضطراب طيف التوحد هي حالة تظهر عادة ًباكراً في بداية مراحل الطفولة، ويسمى طيف لأنه يختلف كثيرا بدرجته او حدته بين المصابين، ولكن يشتركون بضعف في القدرة على التواصل مع الأشخاص والبيئة المحيطة، ويميلون لتكرار حركات او تصرفات معينة، ما يؤثر سلبيا على علاقاتهم الأجتماعية وتحصيلهم الدراسي والمهني في المستقبل. وغالبا ما يكونون اكثر عرضة للأضطرابات النفسية الأخرى مثل القلق والاكتئاب واضطرابات الشهية .

تبدأ اعراض التوحد عادة منذ السنة الأولى في عمر الطفل، فلا يميل طفل التوحد للتواصل مع الأشخاص ولا يستطيع التعبير عن نفسه بلغة الجسد والعيون، كما ينزعج بشكل كبير من الضوضاء والأنوار الساطعة، ولكن عادة يتم التشخيص في العام الثاني او الثالث عندما تصبح الأعراض اوضح. وليس بالضرورة ان يصاحب التوحد اعاقات عقلية، فالخلل المسبب للتوحد هو اجتماعي، وقد يكون مصاب التوحد صاحب قدرات عقلية مميزة.

ولكن ما سبب التوحد؟ ما هو الخلل العضوي المسبب؟ ولماذا انتشر بشكل كبير في هذه الفترة؟

يعزى التوحد لمجموعة كبيرة ومتشعبة من الأسباب، حيث يعتبر احد الأضطرابات التي تواجه الجهاز العصبي، وهو من اكثر اجهزة الجسم تعقيدا، يمكن ان نصوره بشبكة الاتصالات الداخلية في الجسم والتي تصل كل الأعضاء بالدماغ وتغذي الدماغ بالمعلومات عن ما يجري من متغيرات داخلية وخارجية، يحلل الدماغ هذه المعلومات ويصدر اوامر تبعا الى الأعضاء المعنية، كل هذه الرسائل تنتقل عن طريق الخلايا العصبية بما يسمى بالسيالات العصبية التي تعمل عن طريق مجموعات متعددة من سلاسل التفاعلات الكيميائية. اي خلل في أي جزئية من هذه العملية المعقدة من الممكن ان يؤدي الى التوحد.

انطلاقا من فهمنا لماهية اضطراب التوحد، بامكاننا ان نتخيل كيف امكن للعديد من الأسباب ان تلعب دورا بالأصابة، قد يكون خلل في نمو الدماغ في مرحلة التكون، او يكون خلل في المستقبلات الحسية أو الخلايا العصبية. وهذه تسببها طفرات جينية أو عوامل بيئية وغالبا ما يكون مجموعة مسببات متتابعة.

هل هذا يعني ان التوحد وراثي ام لا؟

تحدث الأمراض الوراثية غالبا بحدوث طفرة في جين معين له دور واضح و مؤثر، واستطاع العلم ان يجد الرابط بين المرض الوراثي والجينات المرتبطة به والتي تعتبر المشتبه الأول عندما يجد الطبيب اعراض لمرض معين مثل الثلاسيميا،  وبتحديد الجينات المسؤولة استطاع العلم ايضا ان يحدد النمط الوراثي واحتمالية انتقال المرض للأبناء وغيره. ولكن هذا يختلف عندما نناقش طيف من الاضطرابات كالتوحد، فقد نشرت دراسات علمية لأكثر من الف جين مختلف قد يكون مرتبط بالخلل، ولم نجد اي جين واحد معين او مجموعة معينة من الجينات المرتبطة بشكل مباشر بالتوحد وذلك تابع لطبيعة المرض وعدد الاحتمالات الهائل لمصدر الخلل. ما نستطيع ان نقوله الأن هو ان الوراثة او الجينات تلعب دور، واحتمالية الأصابة بالتوحد ترتفع بوجود حالات أخرى مسجلة في العائلة, ولكن الجينات المسؤولة عن الخلل لا تتشابه بين الحالات مما يجعل الكشف عنها والاستفادة من معرفتها مهمة معقدة وغير مجدية للآن و لكن الأبحاث مستمرة.

ما هي العوامل البيئية للتوحد؟

تم اجراء العديد من الدراسات المختلفة لتحديد العوامل البيئية المسببة للتوحد، واختلفت الآراء كثيرا، ولم نستطع الى اليوم الجزم بأن عاملا معينا هو مسبب رئيسي لطيف التوحد، فبينما ساد الأعتقاد مسبقا بأن المطاعيم قد تسبب التوحد جاءت دراسات حديثة لتثبت انه لا يوجد اي علاقة بين المطاعيم والتوحد. وهنالك مجموعة من العوامل التي تم التوصل اليها وحاليا تكثف الدراسات عنها، وتشمل الأمراض التي قد تتعرض لها الأم اثناء الحمل مثل الحساسية المفرطة وامراض جهاز المناعة، التوتر الشديد والضغوطات النفسية للأم ايضا تلعب دورا، بعض الدراسات تربط بين اصابة الأم او الأب بالسكري والتوحد عند الأطفال، وايضا تعرض الأم او الرضيع الى الكيماويات بكثرة مثل المبيدات الحشرية أو الطلاء ومواد البناء.

لماذا اصبح التوحد ظاهرة منتشرة في السنوات الأخيرة؟

ازدادت الحالات المشخصة بالتوحد بشكل هائل، وقد تكون زيادة المسببات البيئية و نمط الحياة الحديثة سببا، ولكن ايضا تطور الطب والقدرة على التشخيص هي سبب آخر، فاليوم اصبح التوحد مرضا معروفا و تشخيصه بينما لم يكن معروفا سابقا و ربما كان هنالك العديد من الحالات التي لم يتم تشخيصها سابقا.

 في الخلاصة يمكن القول ان اجتماع عدة عوامل بيئية مع الاستعداد الوراثي يسبب التوحد ولا يمكن لسبب واحد منفصل ان يؤدي لهذا الخلل، كما أن كل حالة تختلف عن غيرها في الحدة والمسبب وايضا في الأستجابة للممارسات العلاجية.

  و سوف اتطرق للممارسات العلاجية المتوفرة لطيف التوحد في المقال القادم