ولادة الأربعين - الحلقة الأولى

Blog Image
  • Author

    نادين الصرايرة

    كاتبة هاوية للحروف ومؤلفة لبعض القصص القصيرة والحكايات
  • Date

    11 February 2020

ولدت لعائلة ذات دخل متوسّط في مجتمع يحترم فيه الغنيّ وينبذ فيه الفقير، في الحقيقة نحن لم نكن أيًّا منهما، ولا حتّى بينهما، فقد أغنَيْنا أنفسنا بِعفّتنا أمام الخلق، وتذوَّقْنا مرارة البيات جوعًا وحرمانًا خلف أبوابٍ موصده .

 

ربّانا والدانا وعلّمانا _وبخاصة أمّي_ أنّ البساطة هي مَن تصنع السعادة لمجرّد امتلاكك القناعة، وحبّ الشيء الذي بين يديك، فقد نقلت لنا تلك الخصلة حينما كانت تضحك بوجه أبي رغم انهيار جسدها وصعوبة تنفّسها مِن حمل الهمّ على كتفيها وحدها، دون أنْ تشعرنا بأيّ نقص. كبرْنا على هذا الوهم؛ ربّما لأنّنا حينها لم نكنْ نملك سوى الحلم والتوهّم، فحتّى الأمل لم نستطع تصديقه؛ لأنّنا بحاجة لمعجزة في وقتها تُثبت لنا أنّ كلّ شيء سيكون على ما يُرام لنعيش حتّى يومنا التالي دون أنْ نموت جوعًا أو بردًا.

 

كانت أجواء بيتنا مليئة بالنظام والمثاليّة؛ ربّما بسبب خوف والدتي الدائم واهتمامها براحة أبي، فقد كان يمضي وقته في العمل فيعود ليسرق لحظات الراحة بعد يومٍ طويل متعب مِن أجل لقمة العيش التي لم تتوفّر بسخاء إلى الآن .كانت غرفتي تشبه خيم الحدود، لا تحوي سوى مفارش معدومة المعالم بالية وهزيلة ليس لها فائدة سوى عزلنا عن الأرض دون أنْ تقيَنا من رطوبتها… نرتمي أنا وأخي مفترشين أحلامنا وأمنياتنا، نمضي ليلتنا محدّقين بثغور سقف غرفتنا، نصنع منها نجومًا ونوافذ تضيء عتمة تخيّلاتنا، فالمعدم لا يستطيع تخيّل وفرة الأشياء من حوله.

 

كان أبي رجلًا حكيمًا بكلامه، يصدف أنْ نجتمع كلّ عامٍ مرّة نختطف مِن العمر ساعةً لنا شوقًا لفكاهته، رغم أنّه ينطق حروفه مرفقةً بعبوس الحاجبين إلّا أنّ ضحكاتنا معه تُطيحنا أرضًا، أذكر وقْتها أنّه قال حكمةً لأخي الأصغر منّي مليئةً بالاستهزاء، كنوع من الفكاهة، لكنّني لم أتقبّلها مطلقُا.

 

قال له: يا بنيّ، إنْ تزوّجت بامرأة فاتنة فأنت غبيّ.

وإنْ تزوّجتها عاديّة (كأمّك مثلًا) تكن طبيعيًّا.

 

صمت للحظات ورمَقَ أخي بنظرة الرجل الخارق وقال: وإنْ كنت ذكيًّا فلا تتزوّج أبدًا، وإنْ تزوّجت فاختَر أنْ تكون غبيًّا لتعيش بقيّة عمرك بمتعة. وإنْ استطعت فأشبع عينيك من جمالهنّ، ولكنْ إيّاك أنْ تقترب فيذيقنّك سُمّهنّ. 

 

جاءت أمّي وكانت قد اختلست أطراف الحديث، وهي تصنع فنجان شاي أبي بالنعناع _كما يحبّه_ وقالت لأخي: إيّاك يا بُنيّ أنْ تحمل في أحشائكَ قلبًا كالسفن يحمل البشر والبهائم، فالقلب يا بنيّ نعمة من خالقه، فأحسن ما تختار له، والنساء والرجال يا بنيّ كالمعدن، الأصليّ منه يبقى معك للنهاية، والرخيص تجده في أيدي الجميع. وإنْ كنت إنسانًا بقلبك وضميرك قبل شكل جسدك فستعرف كيف تختار شريكك وكيف ستعامله، وإنْ كنت كالبهم ستتبع شهوتك وتطمس ضميرك وستبيع مَن بقيَ معك للنهاية؛ لأجل شهوتك هذه، وستُشترى بأرخص الأثمان بعد أنْ كنتَ غاليًا.

 

تعبت عيناي من التحديق بهما وكأنّني أستمع لهم يتحدّثون بلغة لا أفهمها، ولأوّل مرّة أشعر أنّني أحتاج لشرحٍ مفصّل، وأنّ أخي لم يستلذَّ لحديثهما المصفوف.

 

لكنّي متأكّدة أنّ شيئًا ما قد غُرس في عمقه، فهل سينبت ليثمر ببذور كلام أمّي أم أبي؟!

 

يتبع.......