ولادة الأربعين - الحلقة الثانية

Blog Image
  • Author

    نادين الصرايرة

    كاتبة هاوية للحروف ومؤلفة لبعض القصص القصيرة والحكايات
  • Date

    19 February 2020

في تلك الليلة أغلقت ثغور السقف، واكتسى بكلمات والديّ، حاولت أنْ أعيد ترتيبها وتحليلها ولكنّني لم أقوىَ.

خُيّلت لي صورة أُمّي وهي تتحدّث، لطالما كانت تعتصر ألمًا، بينما كان أبي يتحدّث بلغة المتكبّر، ونظراته لأمّي مليئة بالاستخفاف وعدم المبالاة. عرفتُ وقتها أنّ هنالك ألمًا تمكّن من انتهاش قلب أمّي، وربّما تفشّى بجسدها ليقضي على مشاعرها اتّجاه أبي، فلم تكن تلك طريقتها، ولا أسلوبها بنقاش أبي.

 

أمّي امرأة مطيعة وتُوافق أبي على كلّ ما يقول، ولكنّ هذه المرأة لم تكن تلك المرأة، فقد خرجت مِن صمتها وكأنّها مغلولة، لم تجبن ولم تخَفْ، فهل كان وجودنا مصدر قوّة لها أم أنّها أخيرًا تمكّنت مِن ضعفها وأخرجت مكنون بوحها؟!

أظنُّها نامت ليلتها تأكل أصابعها ندمًا، تبحث عن طريقه لتجعل أبي يغفر لها طول صوتها، فهي أضعف مِن مواجهة أبي حتّى ولو كانت محقّة بأمرٍ ما.

 

ربّاه ما الذي حصل هذا العام لحكايانا المضحكة؟! وما الذي انكسر بين أبي وأمّي ليصبح نقاشهما لاذعًا هكذا؟!

في صباح اليوم التالي استيقظت متشوّقةً لسماع سيناريو وكلمات التبجيل بأبي، كما عوّدتنا أمّي بكلّ صباح في دعواتها له، ومحاسبتنا بنفس الطريقة بأنّنا لا نستحقّ والدًا كأبي يغوص بعمق الليل ليحارب من أجل تلك اللقمة.

فتحت باب غرفتي وإذ بصوت أمّي يعاتب صمت أبي: “لمَ كان عليّ التحمّل والصبر ومنحك كلّ الحبّ والطاعة وقت شدّتك وحاجتك؟! فقد كنت غنيةً بك ولكنّك الآن اغتنيت بأخرى عنّي وعن أولادك، فهل هذا ما أستحقّه بعد كلّ تلك السنين؟! دار بينهما عتابٌ شرسٌ عرفت في نهايته أنّ أبي مَن أخبر أمّي بزواجه بأخرى، ولم يكتفِ بذلك بل قلّل مِن شأنها ومِن كلّ ما قامت به طوال تلك السنوات.

 

تصلّبت مشاعري، وأردت البكاء والظهور أمامهم؛ لإيقاف هذا السيناريو البشع، فحقد نظراتهم بالليلة الماضيّة ما زالت أمامي. لم أفكّر يومًا بأنّ أبي سيرى امرأةً أخرى غير أمّي، فمن ستفهم نظراته وتلبّي حاجاته قبل طلبها؟! أمّي امرأةٌ خارقة صنعت من نفسها فانوسًا سحريًّا بين أيدي أبي، ربّما في نظري على الأقلّ؛ لأنّني لم أرَ امرأةً مثلها قط.

 

لم أشعُر بوجود أخي خلفي فقال لي: هل تزوّج أبي حقًّا؟ لم أعرف ما سأجيبه بما يتناسب مع عمره. فقال أخي: لا بدّ أنّ أبي أراد معاقبة أمّي على حديثها ليلة أمس، فقد كانت نبراتها تعلو كرامته كرجل، لم تعُد أمّي مطيعةً له، في حينها عرفتُ ما الذي بدأ بالنموّ داخل أخي، فقد سُقيَ بحديث أبي ومالَ على وجهته .

 

بدأ أبي بالغياب لأيّام وأشهر دون أنْ نعرف مكانه، والأصحّ أنّنا لم نجرؤ على سؤاله، فلا بدّ أنّه سيّد بيتٍ ليستْ أمّي شريكته ولا نحن أبناؤه. كان هذا الغياب يأكل مِن عافية أمّي، فبدأتْ معالمها تتغيّر، وازدادت تجاعيد الخيبة في وجهها، كانت تتهرّب بنظراتها بعيدًا عنّا لتبقى الأقوى كما كانت هي تعتقد.

 

ولكنّني يا أمّي أعلم أنّك أضعف مِن أنْ تكوني بلا أبي.

 

يتبع..........