ولادة الأربعين - الحلقة الرابعة والأخيرة

Blog Image
  • Author

    نادين الصرايرة

    كاتبة هاوية للحروف ومؤلفة لبعض القصص القصيرة والحكايات
  • Date

    03 March 2020

طيلة هذه الأعوام كانت تتدرّب أمّي في صالون تجميل نسائيّ، كان لها لمسة جماليّة مميّزة صقلتها طوال هذا الوقت؛ ما جعل مالكة الصالون ترقّي والدتي لخبيرة تجميل… كبرت سمعة أمّي بين الزبائن، وكثرتْ صديقاتها بهذا المجال، تمكّنت بعدها من الدخول في شراكة معَ إحداهنّ، ثمّ فتحت مشروعها الخاصّ.

كبرت أمّي عُمقًا وليس عمرًا، كبرت بنظر نفسها وأحبّت نفسها كثيرًا، اختفت تجاعيد وجهها، وبدأت لمعة الحياة تعود لعينيْها، بدت ذات وجهٍ ورديّ يُشرق فرحًا وأملًا، أظنّ ولادة أمّي الحقيقيّة كانت يوم ولادة الحياة بجسدها الذي أتمّ الأربعين… نعم إنّها ولادة الأربعين حين تظنّين أنّ الحياة مجرّد أيّام تطوي بعضها البعض، وتكتشفين أنّكِ أنتِ الحياة لأيّامك.

 

خطّت أمّي لي قصّة المرأة الناجحة التي تُولد من بعد مخاض صبرٍ طويل… أُمّي امرأةٌ خارقة، وأنا البلهاء التي ظننتها ضعيفة دون رجلها. 

 

فالمرأة تحتاج رجلًا في حياتها ولكن دونها لن تولد الرجال. أيقنت بعدها أنّ المرأة ماهرةٌ بركوب أمواج الحياة بالفطرة تجدها تجاري كلّ الظروف ومعها تتعايش. ازدهر بيتنا بربيع الحياة وبولادة أمّي هذه فلم نعُد نبات في تلك الغرفة الرطبة، بل بغرفة تكسوها الزهور بكلّ الألوان تفتح في نفسنا العيش مِن جديد، هي المرأة إنْ تمكّنت سخّرت كلّ شيء بوفرة وسخاء، ربّما لو بقيَ أبي لبقيت أمّي في حدود طريق غرفة ومطبخ، تخدم هارون على كرسيّه العظيم. بعد كلّ هذا الزمن عاد أبي بعيونٍ خجلة؛ لما أضاعه مِن كنز كان بين يديْه بعد أنْ كانت عاديّة في نظره، صافحَتْه أمّي وكأنّ شيئًا لم يكُن… ربااااه، يا أمّي، هل هذه قوّةٌ أم عرفان جميل يحمله طيب خلقك بعدما وصلت له الآن؟!

 

سنّ الأربعين كعشرينيّات العمر، فيه من الجنون والنضج والحكمة الكثير، ولكنّه ينبض رزانةً عند بعض النساء أمثال أمّي. فكلّ النساء ينبضْنَ نعومة ما لم يوضعْنَ تحت المحكّ ستجدُ مِن أنوثتهنَّ سيفًا يشلّ كلمة رجولة مِن هذا العالم.

 

أمّي لم تتخلَّ عنّا ولم تقفْ عند كلمات أبي اللاذعة، ولم تُدِرْ أذنيْها لسخافات أحاديث نسوة هذا العالم، وعلّمتني أنْ ليس كلّ الرجال سواسية، فلكلٍّ منهم طبع وخلق، فلم تُرِدْ زرع عقدة الرجال والارتباط في عمقي، ولكنّها علّمتني أنّ ضعف المرأة ليس من رجلٍ متسلّط، إنّما من ذاتها حين توهب نفسها وأنفاسها له كجارية، وأنّ الاعتدال حتّى بالمشاعر سينصف المرأة مِن ظلمٍ كثير، 

أذكر حديثًا لها قالت فيه: يا بنيّتي، في فترةٍ ما مضت شعرتُ وكأنّ أباكِ حزم أنفاسي بين حقائبه، ولكنّني بعدها تأكّدت أنّه لم يحزم سوى أشيائه، وأنّ أنفاسي تسرّبت للسماء كطيرٍ طالَ حبسه ليتنفّس العيش مجدّدًا. 

 

آهٍ يا أمّي وألف آهٍ، ليتك تمسحين بيدك على رؤوس أطفال هذا العالم، فهو يتيمٌ مَن ليس له أمٌّ تحمل  قلبًا كقلبك.