فتاة قرويّة - الجزء الأول

Blog Image
  • Author

    نادين الصرايرة

    كاتبة هاوية للحروف ومؤلفة لبعض القصص القصيرة والحكايات
  • Date

    19 March 2020

عشتُ حياتي كطفلة بلهاء لا تعرف فكّ حروف الحياة وربطها ولا الغوص في دهاليزها، تقوقعْتُ في ذاتي بعيدًا عن نداءات الأُنوثةِ، ورميْتُ بجسدي نحو اللامبالاة، شخْتُ بأفكاري وأوهامي أنّني سأكون يومًا ما أُريد ولن أُغيّر شيئًا مِن خواصّي، ولن ألتفتَ أبدًا لتقلُّب الزمان، فمَن يُريدني سيُحبُّ ما أنا عليه، أمضيْتُ حياتي في قريةٍ لا يعرف أهلها مِن التلفاز سوى قناة واحدة تبثُّ الأخبار المحلّيّة وبعض البرامج الوثائقيّة، فكان كفيلًا بِلمّ شتات العائلةِ بعد يومٍ تَعِبٍ وشاقٍّ، وبتلك الصافرة المفزعة التي تفجعنا بإغلاق القناة ليلًا يمتطي كلٌّ منّا فراشه المُكبّل بالأحلام، فلكلّ واحدٍ منّا حلمٌ وحكاية، وأظنّ أنّ أبي هو صاحب الحلم الأقصر زمنًا والأكثر تعبًا، فلا أظنُّ حلمه يتجاوز بضع ساعات تفصله عن إشراقة شمسٍ يكدُّ منها لجمع قوتٍ لا يسدُّ جوع أفواهنا.

 

هزّت أمّي صباحي بصوت دعائها المعتاد “ربِّي بارك لي بأولادي”، تمنّيْتُ لو أنّي أقوى على ردع دُعائها فنحن على حالنا لم نتغيّر، وفقرنا يهرم دون أنْ يعيا، ونحن لم نزدد إلّا عددًا وجوعًا، أسدلْتُ خصل شعري ونفضْتُه فأعدْتُ ربطه مجدّدًا، وهرعْتُ لمدرستي مسرعةً لعلّي أنسى ضيقي ويأسي، وصلت مدرستي المكوّنة مِن أربع غرفٍ صفيّة نتبادل فيها أنا وصديقاتي كتبنا مِن خلال شقوق جدرانها المتعفِّنة، كنّا نمضي فيها ساعات يحومها الخوف مِن سقوط تلك الجدران على رؤوسنا وحقيقةً كان ذلك حلمي بأنْ تكون سبب انتهاء كآبتي تحت مسمّى شهداء العِلم ربّما فتلك نهايةٌ جميلةٌ لي ولأهل قريتي، فقد تلتفتُ لهم العيون وتطولهم الأيدي البيضاء.

 

 مرّت الأيّام ونجحتُ في الثانويّة… لم أحظَ بمعدّل مُشرّف لكنّني كنتُ الأولى على دفعتي، وكانت مدرستي الأقلّ حظًّا، وهذا مكّنني أخيرًا مِن الانطلاق نحو الحياة، نحو مدينة لا أعرف سوى اسمها على خارطة الوطن، دخلتُ سكن الطالبات ومِن نظراتهنَّ شعرْتُ بأنّني مخلوقٌ مُريب لا أُشبههم بشيء، وأيقنْتُ أنّ هذه أوّل محطّةٍ ستُوقفني متأخّرةً عن قريناتي، وستُطيل المأساة طيلة أربع سنين.

 

جاء صباح اليوم التالي وصحَوْتُ على صوت قرعٍ متتالٍ فكانت زميلتي تُعيد مستحضراتها التجميليّة إلى علبتها البلاستيكيّة، تصلّبْتُ مِن فراشي وأطلْتُ النظر فيها فهذا الوجه ليس ذاك الوجه الذي باتَ ليلة أمس! ابتسمْتُ لها وصوتٌ بداخلي يصرخ: مِن أين جاءت بكلّ هذا الجمال؟! انتظرْتُ خروجها ووقفْتُ أمام المرآة وكانت الكارثة… حقًّا أنا لا أُشبههم، وهل وصلْتُ العشرين وأنا أنتظر فارسي بكلّ تلك البشاعة؟! كيف لي أنْ أجرؤ على التفكير بأنّني سأكون يومًا ملهمةً لأديب وشاعر؟! فوالله لو رآني شاعر لوضع خطوط النهايةِ لشِعره ولأحرقها ورمى بنفسه!